الحمد لله شرح للإيمان قلوب المؤمنين، وطيب بالإحسان حياة المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه
الحمد لله شرح للإيمان قلوب المؤمنين، وطيب بالإحسان حياة المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فامتثلوا رحمكم الله أمر الله إذ ناداكم بأشرف الخصال وأمركم بأكرم الخلال، ووعدكم بأعظم النوال، فقال وصدق المقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].
عباد الله، اعلموا أن الإيمان ينبوع في قلب المؤمن تفيض منه أنوار المعارف، فالإيمان يذكر العبد أن الله وحده الكاملةُ صفاتُه الجميلةُ أفعالُه، المتواصلةُ نعماؤه، فيُثيرُ في القلب حبَّ الله، ويُهيج الأشواقَ إلى الله، الإيمانُ يزجرُ القلبَ بدلائل عظمة الله، فيكادُ القلبُ ينفطرُ خوفًا ووجلًا بالإيمان، يَشَمُ القلبُ نسائمَ الرحمة، فيهتز رجاءً وأملًا، الإيمانُ مرآةٌ يُبصرُ بها العبد عيوبَه وغدراته، ويوقفه على نعم ربه وآلائه، فيستحيي العبد من الله، فإذا ارتوى قلب المؤمن من حب ربه وخوفه ورجائه، والحياء منه، نبتت شجرةُ الإيمان، شجرةٌ طيبةٌ أصلها ثابتٌ وفرعُها في السماء تؤتي أكلَها كل حين بإذن ربها، ففي كل حين يرقى المؤمن في معارج الزلفى بأنواع من التعبدات الظاهرة والباطنة، ومتى نضَب ينبوعُ الإيمان أجدب القلبُ، فضعفت شجرةُ الإيمان أو ماتت فلا ثمرَ ولا ظل.
عباد الله، العبد في سفر إلى الله تعالى نفسه هي راحلته التي يقطع الطريق عليها، والإيمان وقودها وحاديها، والقرآن دليلها وهاديها، فمتى قلَّ الإيمان ضعُف سيرُ العبد إلى الله، أو انقطع وهلك، لقلة الغذاء وخُفُوْت الحداء.
فلهذا كان ضعف الإيمان الدائم من أفتك المهلكات، وأعظم البلايا وأشد العقوبات، وأدهى الرزايا، فهو داء مهلك ومرض مخوف، وضرر محض، يفسد معه قلب العبد، وتموت عبادته، وينحرف سلوكه، ويرتكس شأنه كله، نسأل الله العافية، فما أحوجنا يا عباد الله إلى تجديدالإيمان في قلوبنا، وبعث الهمم في طاعة ربنا، وتكسير الأغلال التي أثقلتنا.
تجديد الإيمان ضرورة، تجديدالإيمان حياة، تجديدالإيمان نجاة، مَن لم يبادر بتجديد إيمانه، أغوته مضلات الفتن، فزُلق في مهاوي الشبهات، أو غوى في مراتع الشهوات، أو حُرم من نعيم الطاعات، فلا يخشع في صلاة ولا يتلذذ بتلاوة، ولا يلجأ إلى دعاء ولا يشتاق إلى قربة، ولا يكرم اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويأكل التراث أكلًا لَمًّا، ويحب المال حبًّا جمًّا، متثاقل عما يحب الله، مسارع لما يبغض الله، وكفى بهذه الدركة سفولًا.
عباد الله، فتح الله لنا في شرعه أبوابًا لتجديد الإيمان، وأوسع تلك الأبواب العبادات القولية والعملية، فالعبادات القولية من تلاوة القرآن، والأذكار، ينطق المؤمن شهادة التوحيد بلسانه، ويعلن استسلامه، ويذكِّر نفسه بإسلامه، فقول المؤمن بعد وضوئه: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)[1] تجديد للإيمان، وتلاوته في كل صلاة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] تجديد للإيمان وكل تهليل، وتحميد، وتسبيح في صلاته: تجديد للإيمان وقول المؤمن إذا أصبح: (أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإِخْلاَصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الـمُشْرِكِينَ)[2] ، تجديد للإيمان وقول المؤمن عند نومه: (اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ)[3] ، تجديد للإيمان، وإذا حل بالمؤمن كرب فلا أنجع، ولا أنفع من تجديد الإيمان، فعن أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألاَ أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ أَوْ فِي الكَرْبِ: اللهُ اللهُ رَبِّي، لاَ أُشْرِكُ بهِ شَيْئًا)[4].
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (دَعَوَاتُ الـمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ)[5].
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ)[6].
وإذا حلف المؤمن بغير الله جدد إيمانه، فقال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[7]، وإذا جاء الشيطان يشكك المؤمن في الله، جدد المؤمن إيمانه، فقال: (آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)[8] ، وإذا دعا أهل الكفر والضلال جدد إيمانه، وأعلنه أمامهم، كما قال تعالى لنبيه: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15].
ألا فلنسارع يا أهل الإيمان إلى تجديدالإيمان وتوثيق العهد، وإحياء العلاقة بيننا وبين الله، ولا نكون مثل الذين وصمَهم الله بقسوة القلوب لَمَّا طال عليهم العهد، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
اللهم جدِّد إيماننا وأصلِح حالنا، وطهِّر قلوبنا وزكِّ نفوسنا.
عبد الله، إن جميع العبادات التي شرعها الله ما هي إلا منقيات من الأدران ومجددات للإيمان، وبواعث لليقين ومحفزات للهمة، ومؤكدات للميثاق الذي التزمنا به لله تعالى من التصديق بالخبر، والامتثال للأمر والاجتناب للحظر.
واعلَم أن مما يجدِّد إيمانك: التدبر في عظمة الله عز وجل، والتفكر في خلق السماوات والأرض، وتذكر الموت وزيارة القبور، والنظر في أحوال الصالحين، وإمتاع الروح في رياض سِيَرهم، فهم الصادقون مع ربهم الحريصون على تجديد إيمانهم، فهذا معاذ كان دائم التجديد لإيمانه، فإنه كان يقول للرجل من إخوانه: اجلِس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويَحمَدانه[9]، وحق له فإنه من القوم الذين أثنى الله ووصفهم بتجديد الإيمان في آخر سورة البقرة، وآخرة آل عمران؛ فقال تعالى عنهم: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، وقال تعالى عنهم: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].
فإن رغبت أن تحشر في زمرة أولئك الممدوحين، فاحرص على تجديد إيمانك وتأكيد التزامك.
هذا وصلوا رحِمكم الله على أمركم الله بالصلاة عليه.
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ.
[1] جاء من حديث عقبة بن عامر عند مسلم (1/ 209) برقم: (234)، كتاب الطهارة / باب الذكر المستحب عقب الوضوء.
[2] أخرجه أحمد في المسند: (24/ 77) برقم: (15360)، عن عبدالرحمن بن أبزى، وله عنده طرق أخرى، ورواه النسائي، والدارمي، وصححه الألباني؛ ينظر: السلسلة الصحيحة: (6/1230).
[3] متفق عليه؛ أخرجه البخاري عن البراء بن عازب مرفوعًا (1/ 58) برقم: (247)، كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء، ومسلم (4/ 2081)، برقمتجديد الإيمان يأهل الإيمان2710)، كتاب الذكر، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
[4] أخرجه أحمد في المسند: (45/ 15) برقم: (27082)، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني؛ ينظر: السلسلة الصحيحة: (6/ 593).
[5] أخرجه أحمد في المسند: (34/ 74) برقم: (20430)، وأبو داود في السنن، وحسنه الألباني؛ ينظر: تخريج الكلم الطيب (ص: 117).
[6] أخرجه أحمد في المسند: (3/ 65) برقم: (1462)، والترمذي في السنن: (5/ 409) برقم: (3505)، واللفظ له، وصححه الألباني؛ ينظر: صحيح الجامعتجديد الإيمان يأهل الإيمان1/ 637).
[7] جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله ...)؛ الحديث، رواه البخاري: (6/ 141) برقم: (4860)، كتاب التفسير/ باب: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، ومسلم: (3/ 1267) برقم: (1647)، كتاب الإيمان، باب من حلف باللات والعزى.
[8] كما روى أحمد في المسند مرفوعًا عن أبي هريرة: (14/ 109) برقم: (8376)، وعن عائشة: (43/ 271) برقم: (26203)، وصحَّحه الألباني؛ ينظر: السلسلة الصحيحة: (1/ 233).
[9] رواه ابن أبي شيبة في المصنف: (6/ 164) برقم: (30365)، واللفظ له والبخاري تعليقًا: (1/ 10)، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس»، وصحَّحه الألباني؛ ينظر: تحقيق الإيمان لابن تيمية (ص: 92).