أنزل الله تعالى القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الاتقان والاتساق والائتلاف، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
أنزل الله تعالى القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الاتقان والاتساق والائتلاف، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، قال السعدي: "فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلا". ثم إن الله تعالى قد وصف كتابه بأنه كتب محكم فقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، ووصفه أخرى بأنه متشابه فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، ووصفه في آية واحدة بأنه محكم ومتشابه فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7].
هذه الآيات السابقة أدت إلى اختلاف أهل العلم في القرآن: هل هو محكم أم متشابه؟ فقال بعضهم: كل القرآن محكم، وقال آخرون: كله متشابه، وذهب فريق ثالث: إلى أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، وخلاصة القول في ذلك: أن القرآن يوصف بأنه محكم أو متشابه باعتبارات عدة من أهمها: أنه موصوف بالإحكام أي بالإتقان، وهذا الوصف العام لكل آيات القرآن. وأما أنه متشابه أي متشابه في التماثل والتناسب في الإتقان، فهو متشابه في الإعجاز، وفي حسن الألفاظ، وأنه يصدق بعضه بعضًا ونحو ذلك مما ذكر السيوطي في الإتقان.
ثم إن أهل العلم قد اختلفوا على أقوال كثيرة في بيان كلٍّ من المحكم والمتشابه ومعناهما، وقد ذكر السيوطي نحوًا من ثمانية من تلك الأقوال، من أبرزها: أن المحكم ما عُرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: المحكم ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه. وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال. وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره، وقيل غير ذلك. وهذا الاختلاف بين العلماء في بيان معنى المحكم والمتشابه إنما هو من قبيل خلاف التنوع لا خلاف التضاد، أي هو خلاف سائغ، لا يعود على آيات القرآن بالنقض أو النقص.
ثم إن العلماء يقسمون متشابه القرآن إلى قسمين، قسم ليس للناس سبيل لمعرفة معناه ويسمونه المتشابه الحقيقي، وقسم صار متشابهًا بالنسبة للناظر في النص لا أن النص نفسه متشابه. ويمثل العلماء للمتشابه الحقيقي بمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلى الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، قال الشاطبي في هذا النوع من المتشابه: "فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصَّاها وجمع أطرافها؛ لم يجد فيها ما يحكم له معناه، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه، ولا شك في أنه قليل لا كثير".
وأما المتشابه الإضافي فيرجع إما لتقصير الناظر في النص، أو إلى زيغانه واتباع هواه، قال الشاطبي عن هذا النوع: "لم يصر متشابهًا من حيث وُضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر، ولكن الناظر قصر في الاجتهاد، أو زاغ عن طريق البيان اتباعًا للهوى"، وذلك كأخذ النص أخذًا أوليًا والاستدلال به قبل النظر فيما قد يعارضه، أو يقيده، أو يخصصه، أو العكس كأن يكون النص مخصصًا فيعممه، أو مقيدًا فيطلقه، وهذا المسلك -كما قال الشاطبي-: "رميٌّ في عَمَاية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبهٌ إذا لم يقيد، فإذا قيد؛ صار واضحًا".
والواجب على الناظر في آيات القرآن أن يرد المتشابه إلى المحكم حتى لا يضرب القرآن بعضه ببعض، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، بل يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه» رواه أحمد. وأما اتباعالمتشابه والاستدلال به؛ فإنه طريق أهل الزيغ والضلال قديمًا وحديثًا، وقد قال تعالى في ذلك: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وقد تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ثم قال: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» رواه البخاري.
كانت الخوارج من أولى الفرق التي اتبعت المتشابه فزاغت عن طريق الهدى وضلت، وذلك منهم في أمور كثيرة، من أبرزها موقفهم من علي رضي الله عنه عندما رضي بالتحكيم فيما وقع بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، فأنكر عليه الخوارج ذلك مستدلين بقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف: 40] وقد أخذوا الآية على ظاهرها، وفهموا منها ألا يحكم البشر في شيء؛ وقد رد ذلك عليهم علي رضي الله عنه بحمل هذه الآية المتشابهة على غيرها من الآيات كقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]، فقال رضي الله عنه: "فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دمًا وحرمة من امرأة ورجل". قال ابن حجر في الخوارج: "كان أول كلمة خرجوا بها: قولهم لا حكم إلا الله، وانتزعوها من القرآن، وحملوها على غير محملها".
وكذلك تجد الغلاة على مر الدهور والعصور يأخذون المتشابه من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بذلك على واقعهم، دون رد ذلك المتشابه إلى المحكم كما أمر رسول الله صلى الله عليهم وسلم، فيوقعهم ذلك في الغلو في الدين سواء فيما يحملون أنفسهم عليه، أو فيما يحكمون به على الناس، ومن ذلك ما كان من تفسير بعض الغلاة أحاديث المهدي الذي يخرج آخر الزمان، وتنزيله على شخص بعينه دون دليل، فانتهكوا الحرمات، وسفكوا الدم الحرام، ووقعوا فيما وقعوا فيه، وما ذلك إلا لاتباعهم المتشابه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك تنزيل الأحاديث التي تذكر نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان على فئة بعينها من المسلمين، والجزم بذلك من غير دليل، وهو أمر استأثر الله تعالى بعلمه، ولا يعلم تلك الأحداث التي تكون آخر الزمان إلا الله تعالى، والمطلوب من المسلم في ذلك الإيمانُ بما صح من ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا ما تتبع المسلم حال أهل الغلو في أحكامهم على أنفسهم، أو على غيرهم من الناس؛ يجد أكثر ما يستدلون به المتشابهَ من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.